«مدونة منوعة تُقدّم مقالات، حقائق، أبحاث، ومراجعات أفلام وثائقية. محتوى قيم ومُرتّب يناقش مفاهيم في الثقافة، التعليم، والعلم بأسلوب جذّاب ومُوّثَق.

اخر الاخبار

الاثنين، 11 أغسطس 2025

سرّ منطقة تذكّر الأم في جسم الإنسان – بين العلم والإيمان

 


مقدمة

منذ أن بدأ الإنسان يتأمل ذاته ويفتش في أسرار خلقه ، ظلّت علاقة الأم بوليدها موضع دهشة وتأمل . 

فهناك رابطة فطرية متينة ، غير مشروطة ، تتجلى منذ اللحظات الأولى للحياة ، بل وقبل الميلاد نفسه . 

المدهش أن الطفل ، حين يخرج إلى الدنيا ، ورغم أن دماغه لم يكتمل بعد من حيث القدرة على تسجيل الذكريات المعقدة أو اللغة أو الوعي الإدراكي الكامل ، فإنه يتعرف على أمه فورًا .

وفي المقابل ، يروي علم الأعصاب الحديث قصصًا عن أناس فقدوا ذاكرتهم بالكامل ، فلم يعودوا يعرفون أسماءهم أو أقرب الناس إليهم ، ومع ذلك ظلوا قادرين على التعرف على أمهاتهم أو الاستجابة لهن عاطفيًا . 

هذه الظاهرة تفتح باب التساؤل الكبير : أين تكمن ذاكرة الأم؟ 

وهل هي مخزنة في موضع مختلف عن بقية الذكريات؟


الذاكرة البشرية : ما نعرفه حتى الآن


1. أنواع الذاكرة ومراكزها المعروفة


العلم يصنّف الذاكرة إلى عدة أنماط ، منها :


الذاكرة الحسية : التي تحفظ الانطباعات السريعة من الحواس (البصر ، السمع ، الشم...) .


الذاكرة قصيرة المدى : وهي مؤقتة ، تعتمد على نشاط قشري محدود .


الذاكرة طويلة المدى : وتشمل الذاكرة الدلالية (المعرفة العامة) ، والذاكرة العرضية (الأحداث الشخصية) ، والذاكرة الإجرائية (المهارات) .


المركز الأهم لتخزين هذه الذكريات هو الحُصين (Hippocampus) ، الواقع في الفص الصدغي للدماغ ، بالإضافة إلى مناطق أخرى مثل اللوزة الدماغية (Amygdala) ، المسؤولة عن ترميز العواطف المرتبطة بالذكريات .


2. ذاكرة الأم … خارج التصنيف؟


المعروف أن الرضيع يولد والحُصين لديه غير مكتمل النمو ، ما يفسر عدم تذكرنا لأحداث السنوات الأولى من حياتنا . لكن رغم ذلك ، الطفل يميّز أمه بسرعة مدهشة . 

هذا التذكر الفوري لا يعتمد على الذاكرة العرضية التقليدية ، بل يبدو مرتبطًا بآليات عصبية غريزية ، تتشكل أثناء الحياة الجنينية .


البعد العلمي : احتمالات وتفسيرات


1. الت imprinting البيولوجي


في علم الأحياء السلوكي ، هناك مفهوم يُعرف بـ"البصمة" (Imprinting) ، حيث يتعرف المولود على أمه من خلال مجموعة من الإشارات الحسية : صوت القلب الذي كان يسمعه في الرحم ، رائحة الجلد ، نبرة الصوت ، وحتى الإيقاع الحركي للأم . 

هذه المعلومات تُخزن في شبكات عصبية بدائية تتطور قبل اكتمال مراكز الذاكرة العليا .


2. دور الحواس والدماغ البدائي


حاسة الشم : تُعد أقوى رابط بين الطفل وأمه ، حيث يميز المولود رائحة أمه خلال أيام قليلة من الولادة . 

مراكز الشم ترتبط مباشرة بالجهاز الحوفي (Limbic System) المسؤول عن العاطفة .


السماع : الدراسات أثبتت أن الجنين يتعرف على صوت أمه قبل ولادته ، ويهدأ عند سماعه لاحقًا .


المس والدفء : اللمس ينشط مناطق حسية مرتبطة بالأمان والراحة ، وهذه بدورها تخلق روابط عصبية قوية .


3. الذاكرة العاطفية مقابل الذاكرة الإدراكية


الذاكرة المرتبطة بالأم ليست مجرد صورة أو معلومة ، بل هي تجربة شعورية غامرة . 

الجهاز الحوفي ، وخاصة اللوزة الدماغية ، قد يكون مخزنًا لهذه الروابط على نحو لا يتأثر بفقدان الذاكرة التقليدي .


4. احتمال وجود "منطقة مجهولة"


مع أن العلم حدد كثيرًا من مناطق الدماغ ، إلا أن هناك أجزاء وظيفتها لم تُفهم تمامًا . 

من الممكن أن تكون ذاكرة الأم موزعة بين الدماغ والجهاز العصبي الطرفي ، أو حتى مسجلة في "خريطة عصبية-جسدية" لا تعتمد على المراكز المعروفة لتخزين الأحداث .


التجارب الميدانية والشواهد الطبية


1. حالات فقدان الذاكرة الكلي

في العديد من الحالات الموثقة طبيًا ، يفقد المريض ذاكرته الذاتية بالكامل (Amnesia) ، لكن حين يرى أمه ، يظهر رد فعل عاطفي قوي ، سواء بالدموع أو الابتسامة أو الهدوء الفوري .


2. تجارب مع الحيوانات

في عالم الحيوان ، كثير من المواليد تتعرف على أمهاتها خلال دقائق ، حتى في غياب مراكز ذاكرة متطورة . 

هذا يشير إلى أن الرابط الأمومي قد يكون جزءًا من "برمجة فطرية" في الدماغ .


3. شهادات من فاقدي الذاكرة الجزئية

أشخاص تعرضوا لإصابات دماغية فقدوا القدرة على تذكر أشخاص مقربين (زوجة ، أبناء) ، لكنهم ظلوا يعرفون أمهاتهم . 

هذه الظاهرة توحي بوجود مستوى أعمق من الذاكرة مخصص لهذه العلاقة .


الرؤية الإيمانية : الأم في ميزان الوحي


الإسلام أولى الأم مكانة سامية ، وأكد على خصوصية العلاقة بين الأم وابنها في نصوص القرآن والسنة . 

يقول الله تعالى :


"وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ" [لقمان: 14]




ويقول النبي ﷺ :


"أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك" [رواه مسلم] .


هذا التكرار في الذكر يعكس عمق الفضل وخصوصية الرابطة ، وهي رابطة ليست مجرد عاطفة مكتسبة ، بل جزء من فطرة الله التي فطر الناس عليها .


الإعجاز في الخلق


من منظور الإيمان ، يمكن القول إن "منطقة تذكر الأم" ليست مجرد مسألة بيولوجية ، بل هي تجسيد لآية من آيات الله في الخلق . 

فكما أن الروح أمر غيبي لا نعرف حقيقته ، فإن هذا الارتباط الغامض قد يكون من الأسرار التي أودعها الله فينا لحكمة :


حفظ استمرارية النوع البشري عبر الرعاية الأمومية .


ضمان التعلق العاطفي بالمنبع الأول للحياة .


إشارة دائمة للإنسان بأن هناك روابط لا تُفسر بالعقل وحده .


تداخل العلم والإيمان


في الوقت الذي يسعى فيه العلم لتحديد مواقع الذاكرة وفهم آلياتها العصبية ، يظل المؤمن يدرك أن هناك حدودًا للمعرفة البشرية ، وأن بعض الأسرار ستظل محفوظة إلى أن يشاء الله كشفها . قول الله تعالى يضع الأمر في نصابه :


"وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" [الإسراء: 85]


هنا يظهر التوازن : العلم يشرح الكيفيات الجزئية ، أما الحكمة الكلية والسر المطلق ، فبيد الخالق سبحانه .


خاتمة

إن "منطقة تذكر الأم" تمثل مزيجًا فريدًا من الذاكرة الفطرية والعاطفة الغريزية والبرمجة العصبية ، وهي شاهد حي على أن بعض الروابط في الحياة الإنسانية أعمق من أن تُختزل في إشارات كهربية أو مسارات عصبية . 

قد يأتي يوم يكشف فيه العلماء موضعها الدقيق في الدماغ ، لكن سيظل سرّها الأعمق — وهو كونها هبة ربانية — فوق قدرة البشر على الإحاطة .


ويبقى التذكر الأبدي للأم ، حتى في أقصى حالات فقدان الذاكرة ، من أجمل دلائل عظمة الخلق ولطف الخالق .


🌱اللهم ارحم أمي و أمهاتنا اللواتي انتقلن إلى جوارك ، واجعل قبورهن روضةً من رياض الجنة ، ونوّر مضاجعهن ، واغفر لهن ذنوبهن ، وتجاوز عن سيئاتهن ، وأبدلهن داراً خيراً من دورهن ، وأهلاً خيراً من أهلهن ، واجمعنا بهن في الفردوس الأعلى من غير حساب ولا سابقة عذاب .


اللهم اجزِ الأمهات الأحياء عنا خير الجزاء ، وبارك في أعمارهن ، وألبسهن لباس الصحة والعافية ، وأدم عليهن نعمة الرضا والسكينة ، وارزقهن برّنا في حياتهن وبعد وفاتهن ، واجعلنا قرّة أعين لهن ، واغفر لهن ولنا ، وأدخلنا وإياهن جنات النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم آمين ، اللهم آمين ، اللهم آمين يارب العالمين 🌳.




-بقلم✍🏽: المهندس/ خالد مصطفى الصديق الفزازي

-خبير الإستراتيجية واقتصاد المعرفة

-12 أغسطس 2025م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق