مقدمة
منذ أن بدأ الإنسان يتأمل ذاته ويفتش في أسرار خلقه ، ظلّت علاقة الأم بوليدها موضع دهشة وتأمل .
فهناك رابطة فطرية متينة ، غير مشروطة ، تتجلى منذ اللحظات الأولى للحياة ، بل وقبل الميلاد نفسه .
المدهش أن الطفل ، حين يخرج إلى الدنيا ، ورغم أن دماغه لم يكتمل بعد من حيث القدرة على تسجيل الذكريات المعقدة أو اللغة أو الوعي الإدراكي الكامل ، فإنه يتعرف على أمه فورًا .
وفي المقابل ، يروي علم الأعصاب الحديث قصصًا عن أناس فقدوا ذاكرتهم بالكامل ، فلم يعودوا يعرفون أسماءهم أو أقرب الناس إليهم ، ومع ذلك ظلوا قادرين على التعرف على أمهاتهم أو الاستجابة لهن عاطفيًا .
هذه الظاهرة تفتح باب التساؤل الكبير : أين تكمن ذاكرة الأم؟
وهل هي مخزنة في موضع مختلف عن بقية الذكريات؟
الذاكرة البشرية : ما نعرفه حتى الآن
1. أنواع الذاكرة ومراكزها المعروفة
العلم يصنّف الذاكرة إلى عدة أنماط ، منها :
الذاكرة الحسية : التي تحفظ الانطباعات السريعة من الحواس (البصر ، السمع ، الشم...) .
الذاكرة قصيرة المدى : وهي مؤقتة ، تعتمد على نشاط قشري محدود .
الذاكرة طويلة المدى : وتشمل الذاكرة الدلالية (المعرفة العامة) ، والذاكرة العرضية (الأحداث الشخصية) ، والذاكرة الإجرائية (المهارات) .
المركز الأهم لتخزين هذه الذكريات هو الحُصين (Hippocampus) ، الواقع في الفص الصدغي للدماغ ، بالإضافة إلى مناطق أخرى مثل اللوزة الدماغية (Amygdala) ، المسؤولة عن ترميز العواطف المرتبطة بالذكريات .
2. ذاكرة الأم … خارج التصنيف؟
المعروف أن الرضيع يولد والحُصين لديه غير مكتمل النمو ، ما يفسر عدم تذكرنا لأحداث السنوات الأولى من حياتنا . لكن رغم ذلك ، الطفل يميّز أمه بسرعة مدهشة .
هذا التذكر الفوري لا يعتمد على الذاكرة العرضية التقليدية ، بل يبدو مرتبطًا بآليات عصبية غريزية ، تتشكل أثناء الحياة الجنينية .
البعد العلمي : احتمالات وتفسيرات
1. الت imprinting البيولوجي
في علم الأحياء السلوكي ، هناك مفهوم يُعرف بـ"البصمة" (Imprinting) ، حيث يتعرف المولود على أمه من خلال مجموعة من الإشارات الحسية : صوت القلب الذي كان يسمعه في الرحم ، رائحة الجلد ، نبرة الصوت ، وحتى الإيقاع الحركي للأم .
هذه المعلومات تُخزن في شبكات عصبية بدائية تتطور قبل اكتمال مراكز الذاكرة العليا .
2. دور الحواس والدماغ البدائي
حاسة الشم : تُعد أقوى رابط بين الطفل وأمه ، حيث يميز المولود رائحة أمه خلال أيام قليلة من الولادة .
مراكز الشم ترتبط مباشرة بالجهاز الحوفي (Limbic System) المسؤول عن العاطفة .
السماع : الدراسات أثبتت أن الجنين يتعرف على صوت أمه قبل ولادته ، ويهدأ عند سماعه لاحقًا .
المس والدفء : اللمس ينشط مناطق حسية مرتبطة بالأمان والراحة ، وهذه بدورها تخلق روابط عصبية قوية .
3. الذاكرة العاطفية مقابل الذاكرة الإدراكية
الذاكرة المرتبطة بالأم ليست مجرد صورة أو معلومة ، بل هي تجربة شعورية غامرة .
الجهاز الحوفي ، وخاصة اللوزة الدماغية ، قد يكون مخزنًا لهذه الروابط على نحو لا يتأثر بفقدان الذاكرة التقليدي .
4. احتمال وجود "منطقة مجهولة"
مع أن العلم حدد كثيرًا من مناطق الدماغ ، إلا أن هناك أجزاء وظيفتها لم تُفهم تمامًا .
من الممكن أن تكون ذاكرة الأم موزعة بين الدماغ والجهاز العصبي الطرفي ، أو حتى مسجلة في "خريطة عصبية-جسدية" لا تعتمد على المراكز المعروفة لتخزين الأحداث .
التجارب الميدانية والشواهد الطبية
1. حالات فقدان الذاكرة الكلي
في العديد من الحالات الموثقة طبيًا ، يفقد المريض ذاكرته الذاتية بالكامل (Amnesia) ، لكن حين يرى أمه ، يظهر رد فعل عاطفي قوي ، سواء بالدموع أو الابتسامة أو الهدوء الفوري .
2. تجارب مع الحيوانات
في عالم الحيوان ، كثير من المواليد تتعرف على أمهاتها خلال دقائق ، حتى في غياب مراكز ذاكرة متطورة .
هذا يشير إلى أن الرابط الأمومي قد يكون جزءًا من "برمجة فطرية" في الدماغ .
3. شهادات من فاقدي الذاكرة الجزئية
أشخاص تعرضوا لإصابات دماغية فقدوا القدرة على تذكر أشخاص مقربين (زوجة ، أبناء) ، لكنهم ظلوا يعرفون أمهاتهم .
هذه الظاهرة توحي بوجود مستوى أعمق من الذاكرة مخصص لهذه العلاقة .
الرؤية الإيمانية : الأم في ميزان الوحي
الإسلام أولى الأم مكانة سامية ، وأكد على خصوصية العلاقة بين الأم وابنها في نصوص القرآن والسنة .
يقول الله تعالى :
"وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ" [لقمان: 14]
ويقول النبي ﷺ :
"أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك" [رواه مسلم] .
هذا التكرار في الذكر يعكس عمق الفضل وخصوصية الرابطة ، وهي رابطة ليست مجرد عاطفة مكتسبة ، بل جزء من فطرة الله التي فطر الناس عليها .
الإعجاز في الخلق
من منظور الإيمان ، يمكن القول إن "منطقة تذكر الأم" ليست مجرد مسألة بيولوجية ، بل هي تجسيد لآية من آيات الله في الخلق .
فكما أن الروح أمر غيبي لا نعرف حقيقته ، فإن هذا الارتباط الغامض قد يكون من الأسرار التي أودعها الله فينا لحكمة :
حفظ استمرارية النوع البشري عبر الرعاية الأمومية .
ضمان التعلق العاطفي بالمنبع الأول للحياة .
إشارة دائمة للإنسان بأن هناك روابط لا تُفسر بالعقل وحده .
تداخل العلم والإيمان
في الوقت الذي يسعى فيه العلم لتحديد مواقع الذاكرة وفهم آلياتها العصبية ، يظل المؤمن يدرك أن هناك حدودًا للمعرفة البشرية ، وأن بعض الأسرار ستظل محفوظة إلى أن يشاء الله كشفها . قول الله تعالى يضع الأمر في نصابه :
"وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" [الإسراء: 85]
هنا يظهر التوازن : العلم يشرح الكيفيات الجزئية ، أما الحكمة الكلية والسر المطلق ، فبيد الخالق سبحانه .
خاتمة
إن "منطقة تذكر الأم" تمثل مزيجًا فريدًا من الذاكرة الفطرية والعاطفة الغريزية والبرمجة العصبية ، وهي شاهد حي على أن بعض الروابط في الحياة الإنسانية أعمق من أن تُختزل في إشارات كهربية أو مسارات عصبية .
قد يأتي يوم يكشف فيه العلماء موضعها الدقيق في الدماغ ، لكن سيظل سرّها الأعمق — وهو كونها هبة ربانية — فوق قدرة البشر على الإحاطة .
ويبقى التذكر الأبدي للأم ، حتى في أقصى حالات فقدان الذاكرة ، من أجمل دلائل عظمة الخلق ولطف الخالق .
🌱اللهم ارحم أمي و أمهاتنا اللواتي انتقلن إلى جوارك ، واجعل قبورهن روضةً من رياض الجنة ، ونوّر مضاجعهن ، واغفر لهن ذنوبهن ، وتجاوز عن سيئاتهن ، وأبدلهن داراً خيراً من دورهن ، وأهلاً خيراً من أهلهن ، واجمعنا بهن في الفردوس الأعلى من غير حساب ولا سابقة عذاب .
اللهم اجزِ الأمهات الأحياء عنا خير الجزاء ، وبارك في أعمارهن ، وألبسهن لباس الصحة والعافية ، وأدم عليهن نعمة الرضا والسكينة ، وارزقهن برّنا في حياتهن وبعد وفاتهن ، واجعلنا قرّة أعين لهن ، واغفر لهن ولنا ، وأدخلنا وإياهن جنات النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم آمين ، اللهم آمين ، اللهم آمين يارب العالمين 🌳.
-بقلم✍🏽: المهندس/ خالد مصطفى الصديق الفزازي
-خبير الإستراتيجية واقتصاد المعرفة
-12 أغسطس 2025م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق